منوعات
أخر الموضوعات

جبَّانة الإسكندرية القديمة

تقرير: محمد فتحي

نظرًا لتخطيط المدينة الذي حكمته طبيعة الأرض التي بُنيت عليها مدينة “الإسكندرية”؛ فقد استدعى ذلك بناء الجبَّانات إما شرق أو غرب المدينة، ويستحيل وجودها في الشمال؛ نظرًا لامتداد البحر في الشمال، باستثناء مقابر “الأنفوشي” و”رأس التين” الواقعة على جزيرة “فاروس”، وفي الجنوب نظرًا لوجود بحيرة “مريوط”.

ويذكر “استرابون” أنه كانت هناك مدينة وحيدة للموتى في الضاحية الغربية تسمى “نيكروبوليس”، ولكن الحفائر أثبتت وجود جبانة شرق المدينة، تمتد منذ الفترة البطلمية المبكرة وحتى العصر الروماني؛ وعلى ذلك يكون هناك جبانتان بخلاف الجبانة الملكية التي تقع وسط المدينة، وتضم الجبانة الشرقية: مقابر “الشاطبي”، ومقابر “الإبراهيمية”، ومقابر “كليوباترا”، ومقابر “سيدي جابر”، ومقابر شارع “تيجران”، ومقابر “الحضرة”، ومقابر “مصطفى كامل”، أما الجبانة الغربية – والتي تقع غرب المدينة- فتضم: مقابر “الأنفوشي”، ومقابر “كرموز”، ومقابر “كوم الشقافة”، ومقابر “القباري”، ومقابر “الورديان”.

ومن الملاحظ أن أهل “الإسكندرية” من المقدونيين واليونايين كانوا يفضلون دفن موتاهم في الجبانة الشرقية إبَّان العصر البطلمي (323 – 30 ق.م)، أما المصريون فكانوا يفضلون دفن موتاهم في الجبانة الغربية، ربما لقربها من الحي الوطني الذي يقيمون به، وقد اختلفت الحال منذ أواخر عصر الأسرة البطلمية وخلال العصر الروماني؛ حيث قلَّ استخدام الجبانة الشرقية للدفن؛ وتبعًا لذلك كثر استخدام الجبانة الغربية.

هناك نوعان من المقابر في “الإسكندرية”: مقابر الملوك في الجبانة الملكية، ومقابر الأفراد، وقد حافظ المصريون خلال العصر اليوناني والروماني على عاداتهم الجنائزية، فظلوا يحنطون موتاهم ويدفنونهم في مقابر على الطراز المصري وفقًا للطقوس المصرية القديمة.

أما الأجانب – وعلى الأخص الإغريق منهم – فكانوا يفضلون في بادئ الأمر إحراق جثث موتاهم، ثم جمع الرماد المتخلف وحفظه في أوانٍ على شكل قدور، توضع في فجوات داخل مقبرة، لكنهم سرعان ما نبذوا هذه العادة وبدؤوا يحنطون الجثث كما يفعل المصريون.

وكان جسد الميت – سواءً أكان محنطًا أم غير محنط – يدفن في مقبرة، أو يوضع على سرير جنزي داخل المقبرة، أو في تابوت مصنوع من الرخام والجرانيت، وأحيانًا من الفخار أو الرصاص، أو يوضع الميت في فجوة مستطيلة الشكل محفورة في جدار المقبرة ويطلق عليها اسم “لوكولوس”، تتسع لوضع شخص واحد وأحيانًا لشخصين، وغالبًا ما نجد داخل المقبرة صفوفًا من هذه الفجوات، متوازية يتلو بعضها بعضًا، وكانت كل فتحة تغطى بلوح من الحجر غالبًا ما يُذكر عليه اسم الشخص المدفون بها؛ وعلى ذلك يمكننا تقسيم هذه المقابر إلى نوعين, أولهما عبارة عن حفرة في الأرض يوضع فيها الميت، ثم تغطى في الغالب بألواح من الحجارة تعلو فوق سطح الأرض، مكوِّنةً ما يشبه الدرَج، وقد يعلوه درَج آخر يشبه الهرم المدرج، وكان يثبت في أحد جدرانه لوحة ملونة للميت، ومن أمثلة ذلك: “بعض المقابر بمنطقة “الشاطبي” الأثرية بـ “الإسكندرية” بالقرب من “سان مارك””.

ثانيهما عبارة عن عدة فجوات تكوِّن حجرات محفورة بأكملها في الصخر، يوصل إليها سلم يؤدي إلى فناء على جوانبه حجرات الدفن، كما تظهر منامة لدفن الجثة منحوتة في الحائط بعمق، وتأخذ في نهاية العصر الكلاسيكي شكل المعبد أي أن الفتحة حُفرت في جزئها العلوي على شكل جمالون، وتغطَّى الفتحة بلوحة حجرية عليها اسم المتوفَّى كما هو موجود في مقابر “الشاطبي”.

وتدل بقايا المقابر الإغريقية التي وجدت حتى الآن في “الاسكندرية” و”نقراطيس” و”أبو صير” و”الفيوم”، على أنه يمكن تقسيم المقابر الإغريقة في مصر إلى قسمين رئيسيين, اولهما عبارة عن حفرة منتظمة الشكل أو غير منتظمة، تُنحت في الصخر أو تُحفر في الأرض، ويختلف اتساعها وعمقها حسب عدد الأشخاص الذين أعدَّت لدفنهم، وتغطَّى بالأحجار والتراب، وهذه المقابر بسيطة للغاية ولا تستحق الإفاضة في الكلام عنها، ونظائرها كثيرة في مختلف أنحاء العالم الإغريقي؛ مما يدل على أن الإغريق قد أحضروا معهم طرق دفنهم.

ثانيهما عبارة عن المقابر التي تُبنى أو تُنحت تحت سطح الأرض، وكانت تتألف من نوعين .. أحدهما يسمى “المقابر ذات الفتحات”، وكانت توجد في “الإسكندرية” و”الفيوم”، والنوع الآخر ويدعى “مقابر الأرائك” ووجدت فقط في “الإسكندرية”.

وكان النوع الأول هو الشائع بين الطبقات الوسطى، في حين أن الثاني كان شائعًا بين الطبقات العليا، ولكن ازدياد عدد السكان وضيق الأرض المخصصة للدفن؛ أدى إلى استبدال النوع الأول والثاني، وقد بدأت عملية الاستبدال في مقبرة “الشاطبي” وبلغت ذروتها في جبانة “القباري” و”المكس”, ومقابر النوع الأول فئتان, الفئة الأولي تتمثل في إذ كانت إحداهما لدفن شخص واحد، والأخرى لدفن عدد من الأشخاص، وتتألف مقابر الفئة الأولى من بئر صغيرة بها درَج، وفي أسفل جدار البئر المواجهة للدرج توجد فتحة مستطيلة لدفن جثة الميت.

أما مقابر الفئة الثانية فتتألف عادة من دهليز طويل، أو غرفة توجد في جدرانها فتحات الدفن في صف واحد أو عدة صفوف فوق بعضها، وكانت فتحات الدفن تقفل عادة بألواح صخرية تزينها أبواب وهمية، كانت مصورة في أغلب الأحيان بالألوان وفي بعضها بالنقش البارز، وكانت هذه الزخرفة على النمط الإغريقي عادة، إلا في حالتين نجد طرازًا مختلفًا، ففي إحداهما يرينا النصف العلوي عمارة إغريقية بحتة، في حين أن النصف السفلي يمثل عمارة مصرية بحتة فيما عدا إفريزًا إغريقيًّا ذا أسنان وسط عناصر مصرية، وفي الحالة الأخرى نجد بابًا مصريًّا في طرازه، فيما عدا إفريزًا مشابهًا للإفريز سالف الذِّكر.

و نجد هذه الظاهرة أيضًا في بعض أنصاب الموتى التي صنعت على شكل هياكل صغيرة، ويرجَّح أن تاريخ أقدم هذه الأنصاب يرجِع إلى النصف الثاني من القرن الثاني ق. م، وتدل القرائن على أن الأبواب الوهمية التي تبدو فيها هذه الظاهرة يرجع إلى حوالي هذا التاريخ.

ولما كان اختلاط عناصر العمارة الإغريقية والمصرية اختلاطًا محددًا طفيفًا على نحو ما رأينا، وكانت الأبواب والأنصاب التي تختلط فيها عناصر العمارة الإغريقية والمصرية قليله للغاية  بالنسبة إلى التي كانت إغريقية بحتة؛ فإن ذلك ينطوي على قرينة مهمة سنرى أمثلة متعددة لها؛ مما يوحِي بأن مدى اختلاط الحضارتين كان محدودًا للغاية، وبما أن الدفن في فتحات كان خاصية من خواص الدفن في “فينيقيا” كالمصاطب والأهرامات في “مصر”، فإننا نرجِّح أن أصل ما وُجد من هذه المقابر في مصر فينيقي، وتدل زخرفة هذه المقابر ونقوشها ومحتوياتها على أن إغريق “مصر” قد اقتبسوا هذا النوع من المقابر، واستعملوه في مصر طوال عصر البطالمة. وتستحق “مقابر الأرائك” أن نوليها قدرًا كبيرًا من الاهتمام؛ وذلك لفرط ما كان يوجَّه إليها من العنايه في إنشائها، ولأنها تمدُّنا بالأدلة منقطعة النظير عن المنازل الإغريقية في عصر البطالمة؛ إذ يبدو أن السكندريين كانوا يبنون بيوت العالم الآخر على نمط بيوت هذا العالم، وأخيرًا لأن جدران هذه المقابر كانت مغطاة بزخرفة تُلقي شعاعًا قويًّا من الضوء على أصل الزخرفة المعروفة باسم “زخرفه بومباي”. وتشبه مقابر “الإسكندرية” التي من هذا النوع نوعًا من المقابر وجدت بـ “مقدونيا”، حيث تتألف المقابر المقدونية من غرفتين إحداهما خلف الأخرى، وتسمى الغرفة الأمامية “بروستاس”، والغرفة الخلفية “إيكوس”، وفي “مقدونيا” كانت هذه الغرفة الخلفية هي الغرفة الرئيسية في المقبرة، وفيها كان الميت يدفن فوق تابوت على هيئة الأريكة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق