مقالات
أخر الموضوعات

أمير الشعراء “أحمد شوقى”

بقلم: سيد حاج

فى مهد من مهاد الترف والثراء وُلد “شوقي” سنة1869 , ونشأ في بيئة أرستقراطية مترفهة، وأخذ يختلف منذ سنته الرابعة إلى الكُتاب، ثم انتقل إلى المدارس الابتدائية والثانوية؛ فكان ذلك فرصة له ليختلط بأبناء الشعب وحياتهم الديمقراطية، ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيئته وما بها من نعيم الحياة، ولما أتم تعليمه الثانوي في سنة 1885 ألحقه أبوه بمدرسة الحقوق؛ ليدرس فيها القانون، وأُنشئ بها قسم للترجمة فالتحق به،  وتخرج شوقى فى قسم الترجمة سنة  1887, فعينه “توفيق” بالقصر، ثم أرسله في بعثة إلى فرنسا؛ ليدرس الحقوق، فانتظم في مدرسة “بمبونبليية” لمدة عامين، ثم انتقل إلى باريس، وظل بها عامين آخرين، حصل فيهما على إجازته النهائية, وهُيئت له فرص مختلفة؛ ليذرع فرنسا طولًا وعرضًا، وليزور لندن وبلاد الإنجليز، وكان خلال مدة إقامته فى باريس يشاهد مسارحها ويتصل بحياتها الأدبية، وأقبل على قراءة “فيكتور هيجو ,ودى موسيه، ولافونتين ، ولامرتين”، وترجم للأخير قصيدة البحيرة شعرًا.

عاد” شوقي” إلى مصر، فعمل رئيسًا للقسم الإفرنجي بالقصر، وسرعان ما أصبح شاعر “عباس”، بل سرعان ما أصبحت له حظوة كبيرة عنده، فقد جعل له تدبير كثير من الأمور وتصريفها، وأصبح مقصد طلاب الجاه والرتب والألقاب، وأمضى فى هذا العمل الرتيب عشرين عامًا كانت هي زهرة حياته.

تتشابك في تكوين شاعرية “شوقى” وشخصيته الأدبية عناصر كثيرة، منها الجنسي ومنها الثقافي، أما من حيث الجنس فقد التأمت فيه خمسة عناصر، جعلته عربيًّا كرديًّا تركيًّا شركسيًّا يونانيًّا، وازدواج هذه العناصر الجنسية فيه يؤذن منذ أول الأمر بأنه سيكون شاعرًا كبيرًا، وخاصة أنه يجمع بين الجنسين العربي واليوناني اللذين يشتهران من قديم بالشعر والشاعرية, وأما من حيث الثقافة فقد حذق العربية والفرنسية، وتلقَّن التركية فى بيته، ولكن أثرها لم يكن واسعًا في فنه سوى بعض أبيات ترجمها منها وأثبتها في ديوانه، أما تيارا العربية والفرنسية فيجريان واضحين في شعره، وكان للتيار الأول الغلبة، فهو الذى تتدفق في شعره مياهه أروع ما يكون التدفق وأبهجه.

وعكف على تمثل النماذج العباسية عند  أبي نواس، والبحتري، وأبي تمام ،والمتنبي ،والشريف الرضي، وأبي فراس”، وأمثالهم، وكان إعجابه شديدًا ب”البحتري، والمتنبي” خاصة، وسُرعان ما اهتدى إلى أسلوبه، وهو أسلوب يسلك نفس الدروب التى سلكها البارودي من قبله، فهو أسلوب يقوم على الاحتذاء للقوالب العباسية، ولا يجد صاحبه جرحًا في أن يعارض أصحابها، بل يعلن ذلك إعلانًا كما كان يعلنه سلفه، فتلك أمارة الإجادة الفنية، وهي إجادة تقوم على بعث الصياغة القديمة وإحيائها.

وعلى هذا النحو استطاع “شوقي” أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا أصيلًا، أسلوبًا لا يتحرر من القديم، ولكن في الوقت نفسه يُعبر عن الشاعر وعصره وكل ما يريد من معانٍ وأفكار، وهو أسلوب يقوم على الجزالة والرصانة والمتانة والقوة؛ بحيث تؤلف الكلمات ما يشبه البناء الضخم الشاهق، وهو فى ذلك يقترب من ذوق “البارودي” بأكثر مما كان يقترب “حافظ”، فقد كان بحكم نشأته في الشعب يميل أكثر منهما إلى لغته، فكان يستخدم في كثير من شعره لغة الصحف السهلة، أما” شوقي، والبارودي” جميعًا فكانا يميلان إلى تقليد العباسيين، وكانا لذلك أكثر منه محافظة على التقاليد الفنية الموروثة, وليس معنى ذلك أن صياغة “شوقي” لا تفترق عن صياغة “البارودي” في شيء، فشعره أكثر سلاسة من شعر أستاذه، وكأنما أشربت روحه روح “البحتري”، فموسيقاه أكثر صفاء وعذوبة من موسيقى “البارودي”، وكأنه كان يعرف أسرار مهنته معرفة دقيقة، وخاصة من حيث الصوت وما يتصل به من أنغام وألحان، ولعل ذلك ما جعل شعره أطوع  للغناء من شعر صاحبيه “البارودي وحافظ” معًا، فقد أكثر المغنون في عصرنا من تلحين شعره وتوقيعه.

وشعره ينقسم لقسمين واضحين: قسم قبل منفاه وقسم بعده، وهو في القسم الأول يعيش في القصر ويسوق شعره في قيود هذه المعيشة، فهو شاعر الخديوي “عباس” الثانى، وشعره يكاد يكون مقصورًا على ما يتصل به من قريب أو بعيد، فهو يمدحه في جميع المناسبات، وهو يشيد له بالترك والخلافة العثمانية، وهو في ذلك يسير سيرة الشعراء القدماء، وإن كان يتأثر بالثقافة الأوربية، وقد حدث في هذه الحقبة من حياته تطور في فنه، كالذي كان يحدث عند شعراء العصر العباسى، فهو يُعْنَى أحيانًا بالأوزان القصيرة بوصف الرقص والخمر.

و”شوقي” في كل ذلك لم يكن يُعْنَي بالجمهور عناية دقيقة، فهو شاعر القصر، وهو بعيد عن الجمهور بحكم أسرته الأرستقراطية وبحكم وظيفته الرسمية, ولكن بعد أن يُنْفَى إلى إسبانيا، فينظم قصائد يقارن فيها بين فردوسه المفقود وفردوس العرب الضائع في الأندلس، وينشج وينوح ويصور قروحه النفسية لا في سينيته فقط, ثم يعود من المنفى بعد الحرب، فيجد الشعب في ثورته السياسية، ويجد أبواب القصر مغلقة من دونه فيتجه إلى الجمهور، ويصور عواطفه وأهواءه السياسية تصويرًا قويًّا باهرًا يتفوق فيه على “حافظ”؛ لأن مواهبه أقوى من مواهب “حافظ”، ولأن “حافظًا” كان حبيسًا فى قفص الوظيفة بدار الكتب المصرية.

على كل حال، أهم ما يميز شعر “شوقي” فى هذه الدورة الثانية من حياته أنه تحول من القصر إلى الشعب، فصوَّره فى آماله الوطنية وحركاته السياسية، ولم يعد شاعرًا تقليديًّا، بل أصبح شاعرًا شعبيًّا، ولكن بطريقته الفنية الخاصة، وهي طريقة لم تعد تعتمد على معارضات الشعراء القدماء، وإنما تعتمد اعتمادًا عامًّا على الجزالة والمتانة, كما فيها صوَّر تطاحن الأحزاب على كراسي الحكم ونسيانهم لمصالح الأمة العامة في سبيل مصالحهم الشخصية، وليس هناك مفاوضة يُذكر فيها السودان إلا وينادى شوقي” بالمحافظة على الإخوة الأشقاء وتخليصهم من براثن الاستعمار وهو من دعى إلى إنشاء الجامعة العربية، ولا ينشأ مشروع ولا تقوم مؤسسة إلا ويجلجل فيها صوته  مثل: إنشاء بنك مصر وإنشاء الجامعة المصرية ومشروع القرش، فله في كل ذلك وغيره قصائد رنانة، ونظم كثيرًا من الأناشيد الوطنية رجاء أن تذيع بين طبقات الشعب وشبابه، وأخذ يغني الشعب مطامحه الاجتماعية في التعليم وفي وجوه الإصلاح الاجتماعي المختلفة.

وعلى هذا النحو كان” شوقي” يحلق بشعره فى كل الأجواء، وقام أخيرًا بمحاولة رائعة؛ إذ حاول تمصير الفن المسرحي، فنظم طائفة من المسرحيات تحدثنا عنها فى غير هذا الموضع، وعلى الرغم مما في هذه المحاولة من عيوب، أهمها أنه طبع شعره التمثيلي بطوابع شعره الغنائي، لا تزال أروع محاولة تمثيلية في الشعر العربي الحديث، وإذا قلنا: أنه سابق الشعراء في النصف الأول من هذا القرن غير منازَع ولا مدافَع لم نكن مغالين ولا مبالغين، وحقًّا تلقى قوالب شعره عن “البارودي”، ولكنه صب فيها مشاعر أمته والأمم العربية، كما صب فيها التمثيل صبًّا بديعًا، وهو صب لا يزال مثار الدهشة وموضع الإعجاب بين الأدباء والنقاد.

تتفاوت أساليب” شوقي” في الاجتماعيات، فبعضها أناشيد للأحداث، وبعضها حكايات خرافية على ألسن الحيوان، وبعضها الآخر يتناول موضوعات عامة ممّا يتصل بحياة المجتمع مباشرة، كالمرأة والتعليم والعمال والأخلاق والعلاقات الدينية وغير ذلك, فبالنسبة للمرأة، كان موضوع المرأة تعليمها وحجابها وسفورها من مشاكل العصر أيام “شوقي”؛ لذلك لم يجد مندوحة عن الكلام فى هذا الشأن فهو يرى أن تعليم المرأة أمر لا بد منه لإنشاء الجيل الصالح.

أما عن الدين فى شعر “شوقي”، فإنه كان يري كيف يستغل الأجنبى الفوارق الدينية بين أبناء وطنه، فيهاجم التعصب ويدعو إلى الأخوة، ويلفت نظر المواطنين إلى الأهداف الإنسانية المستركة بين المسيحية والإسلام؛ صيانة للمجتمع من التفكك الذي يستهدفه العدو، وكثيراً ما يكرر “شوقي” هذه المعاني؛ توكيداً لها، كما يفعل في مدح السيد المسيح والإشادة برسالته الإنسانية القائمة على المحبة والرحمة, ويدعو “شوقي” لإتقان العمل، ويرى أن العمال المتقنين هم عمار الأرض، لذلك يحث عمال مصر على الجد والإتقان، ويذكرهم بماضي أجدادهم وما تركوه من آثار عمرانية رائعة؛ ليستعيدوا بعزائمهم ذلك العهد المجيد، وكان “شوقي” كثير الدعوة إلى الأخلاق يراها الأساس الأول لقوة الأمة، وقد حرص على ترديد هذه الدعوة في كثير من قصائده، ومن مشهور أقواله في ذلك :”إنما الأمم الأخلاق ما بقيت… فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”.

فهو حقاً أمير الشعراء و سيظل أميراً مخلداً اسمه حتي آخر الزمان لما قدمه من أشعار وأبيات اهتزت لها الابدان ورُفعت لها القبعات, فنتمنى لو يُولد أميراً آخر فى كل زمن يكون خليفته في الشعر ويوارثه عبر الأجيال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق