منوعات
أخر الموضوعات

الملكة “حتشبسوت” ولغزها المحير

تقرير: أحمد الرفاعى

“آمون حتشبسوت” والشهيرة بـ “حتشبسوت”، أشهر الملكات اللواتي حكمن مصر، وأقواهن نفوذًا فقد كان حكمها نقطة بارزة ليس في تاريخ الأسرة الثامنة عشر فحسب، بل وفي تاريخ مصر القديم كله.

ولدت “حتشبسوت” في عام 1508 قبل الميلاد، وهي الابنة الكبرى للملك “تحتمس الأول”، والملك “أحمس”, ويعتبر الملك “أحمس الأول” صاحب الانتصار العظيم في تحرير مصر من الهكسوس، وهو الجد الأكبر لحتشبسوت، ومؤسس الأسرة الثامنة عشر التي تنتمي إليها, وتلقت “حتشبسوت” تعليماً عن علوم الأخلاق والسلوك الصحيح، بالإضافة إلى القراءة والكتابة، والحساب والفلسفة، والطقوس الدينية، وقواعد اللغة والإنشاء.

تزوجت “حتشبسوت” من أخيها غير الشقيق “تحتمس الثاني” على عادة الملوك الفراعنة، الذي لم يكن أمامه كي يقبض على صولجان الحكم سوى أن يتزوج من “حتشبسوت”، وأنجبت منه ابن وبنتان، فأمّا عن الابن فقد مات في طفولته، ولم يبق اسمه على أي أثر من الآثار، وأما الابنتان فاسمهما “نفرو رع، وميريت رع حتشبسوت”, وقد أنجب زوجها “تحتمس الثاني” ابنه “تحتمس الثالث”، من أحد محظيات البلاط الملكي، والتي كانت تدعى “إيزة”.

لقد كان علي “حتشبوت” أن تثابر على نقل وتعلم الحكم المأثورة عن الحكماء المصريين القدماء كأي فرد من زملائها، مثل أخيها غير الشقيق “تحتمس الثاني”، والأمراء والأميرات الصغار، وعدد من أبناء الوزراء والأسر النبيلة؛ ولا شك في أنها كانت تخشى المُعلم الذي كان يلقنها الدروس، وتخشى أساليبه العنيفة مع تلاميذه مهما كانت منزلتهم، ولقد كان هذا مثالاً للعدالة التي تُطبق على الجميع بالتساوي من دون خوف أو محاباة، والتي أصبحت جزءاً أساسياً في حياة المجتمع المصري في ذلك الوقت، ولم يكن لحتشبسوت أن تطالب بأي امتيازات خاصة في معاملتها، وقد كانت المدرسة الملكية في بيت فرعون كغيرها من مدارس البلاد، تبدأ في الصباح الباكر وتنتهي عند الظهيرة، كما تفعل الكثير من مدارس مصر في الوقت الحاضر, كما كانت “حتشبسوت” الوريثة الشرعية لعرش البلاد، فلم يكن هناك وريث شرعي من الذكور، فقد كان أخوها الغير شقيق “تحتمس الثاني” من أبيها من زوجة ثانوية تدعى “موت نفرت”.

نشـّطت “حتشبسوت” حركة التجارة مع جيران مصر حيث كانت التجارة في حالة سيئة خصوصًا في عهد الملك “تحتمس”، وأعادت استخدام قناة تربط بين النيل عند نهاية الدلتا بالبحر الأحمر، حيث قامت بتنظيف هذه القناة بعد أن حفرها المصريون أيام الدولة الوسطى، وذلك لتسيير أسطول مصر البحري بها ليخرج إلى خليج السويس وبعدها إلى مياه البحر الأحمر, وأمرت ببناء عدة منشآت بمعبد الكرنك، كما أنشأت معبدها في الدير البحرى بالأقصر.

اهتمت “حتشبسوت” بالأسطول التجاري المصري فأنشأت السفن الكبيرة، و استغلتها في النقل الداخلي لنقل المسلات التي أمرت بإضافتها إلى معبد الكرنك تمجيدًا للإله “آمون”، وفي بعثات للتبادل التجاري مع جيرانها، واتسم عهدها بالرفاهية في مصر، وزاد الإقبال على مواد ترفيهية أتت بها الأساطيل التجارية من البلاد المجاورة، ومن أهمها البخور والعطور والتوابل والنباتات والأشجار الاستوائية والحيوانات المفترسة والجلود.

بعثة المحيط الأطلسي أرسلت فيه الملكة “حتشبسوت” أسطولًا كبيرًا إلى المحيط الأطلسي، وازدهرت التجارة مع المحيط الأطلسي لاستيراد بعض أنواع السمك النادر, كما أرسلت الملكة “حتشبسوت” بعثة تجارية إلى بلاد يون على متن سفن كبيرة تقوم بالملاحة في البحر الأحمر محملة بالهدايا والبضائع المصرية كالبردى والكتان إلى بلاد بونت -الصومال حاليًا- وجنوب اليمن، فاستقبل ملك بونت البعثة استقبالاً جيداً، ثم عادت محملة بكميات كبيرة من الحيوانات المفترسة والأخشاب والبخور والأبنوس والعاج والجلود والأحجار الكريمة, وصورت الملكة “حتشبسوت” أخبار تلك البعثة على جدران معبد الدير البحري على الضفة الغربية من النيل عند الأقصر ، ولا تزال الألوان التي تزين رسومات هذا المعبد زاهرة ومحتفظة برونقها وجمالها إلى حد كبير.

أما عن بعثة أسوان فقد صُورت أيضاً على جدران معبد الدير البحرى وصف بعثة “حتشبسوت” إلى محاجر الجرانيت عند أسوان لجلب الأحجار الضخمة للمنشآت، وقامت بإنشاء مسلتين عظيمتين من الجرانيت بأسوان تمجيدًا للإله “آمون” يبلغ كل منهما نحو 35 طنًا، ثم تم نقلهما على النيل حتى طيبة وأخذت المسلتان مكانهما في معبد الكرنك بالأقصر، وعند زيارة “نابليون” أثناء الحملة الفرنسية على مصر عام 1879 أمر بنقل إحدى المسلتين إلى فرنسا، وهى تزين حتي الآن ميدان الكونكورد في العاصمة الفرنسية باريس.

ويتعجب المؤرخون والمهندسون حتى يومنا هذا بقدرة المصريين على نقل تلك المسلتين من أسوان إلى الآقصر، فعملية تحميل المسلتين على السفن ثم نقلهما على النيل وإنزالها على البر، ثم نقلهما على الأرض إلى مكان تشييدها ليست بالسهل على الإطلاق، وما يفوق ذلك أيضًا هو تشييد المسلتان في المكان المختار لهما بالضبط أمام الصرح الذي شيدته الملكة “حتشبسوت” بمعبد الكرنك على بعد أمتار قليلة من الصرح، ولا يزال المهندسون حتى الآن يضعون النظريات للطريقة التي اتبعها المهندس المصري القديم للقيام بهذا العمل الجبار، ليس هذا فقط، بل أصدرت “حتشبسوت” أوامرها بإنشاء مسلة تعتبر أكبر مسلة في تاريخ البشرية مكونة من قطعة واحدة من الحجر تزن فوق 1000 طن لوضعها بمعبد الكرنك، إلا أن المهندسين المصريين القدماء تركوها بعدما اكتشفوا فيها شرخًا يحول دون استخدامها، ويزور حاليًا سياح من جميع أنحاء العالم لمشاهدة أعجوبة تلك المسلة الغير كاملة التجهيز في محجر أسوان، ويسألون أنفسهم “كيف أراد المصريون القدماء نقل هذه المسلة العملاقة إلى معبد الكرنك؟”, ويصف أحد العلماء الألمان طرق تقطيع الحجر بأن المصريين القدماء كانوا يتعاملون مع الحجر كما لو كان زبدًا، وبالفعل يمكن مشاهدة ذلك في محجر أسوان، وتسمى الآن بـ (المسلة الناقصة). 

لم تشأ “حتشبسوت” أن تبتدع جديداً في مظهر الفرعون الحاكم التي ألفها الناس لعقود طويلة، فعلى الرغم أنه في بداية حكمها كانت تصور كامرأة بكامل زينتها إلا أنه في وقت لاحق أصبحت مثالاً على الفرعون القوي ذو العضلات الذي يضع لحية مستعارة, فقد أخذت تلبس ملابس تشبه ملابس من سبقها من الفراعنة الرجال في الاحتفالات الرسمية، كما ظهرت في بعض تماثيلها بذقن مستعارة كما هو المألوف في تماثيل الفراعنة, وإن كان هذا لم يقلل من كون “حتشبسوت”، كانت تمتلك كل صفات الأنثى الجميلة، فقد كانت ذات بشرة خمرية لطيفة، وأنف معقوف قليلاً، ووجه مستدير، وكانت تحب الزهور والحدائق والأشجار ، وكل شيء ذو أريج وزاهي الألوان.

وقد كان “سنموت” لغزاً مثيراً في حياة “حتشبسوت”، ذلك المهندس الذي بنى لها معبدها الشهير في الدير البحري والذي منحته 80 لقباً، والذي كان يتولى تربية وتعليم ابنتها الأميرة الصغير “نفرو رع”، وقد بلغ من حبه لمليكته أن حفر نفقاً بين مقبرتها ومقبرته، ليكون قريباً منها في الحياة الأخرى كما كان قريباً منها في الدنيا، أما هي فقد كانت تقدر نبوغه وقوة شخصيته، لدرجة جعلها تسمح له ببناء مقبرته في حرم معبدها ليجاورها في مماته كما كان يفعل في الدنيا وإذا جاءت تلميحات المؤرخين لتشير إلى وجود حالة حب قد جمعت بين الاثنين “سنموت وحتشبسوت” بعد وفاة زوجها لكن هذا ليس مؤكداً، وقد تكون مجرد علاقة احترام متبادل.

والمهندس الملكي “سنموت” هو من شيد لحتشبسوت أجمل معبد جنائزي بُني لملكة في التاريخ سواء القديم أو الحديث وهو معبد الدير البحري الذي شيده في حضن الجبل الغربي، وجاء بناؤه بالحجر الجيري الأبيض الملكي المجلوب من طرة، وعلى هيئة صالات ثلاث تعلو الواحدة الأخرى؛ لكي ترتقيها روح الملكة وتصعد بها إلى السماء لتخلد مع النجوم.

توفت “حتشبسوت” في 10 من الشهر الثاني لفصل الخريف، والذي يوافق (14 يناير 1457 قبل الميلاد) خلال العام 22 من فترة حكمها، كما جاء ذلك في كتابة على لوحة وجدت بأرمنت, ولقد تم التحقق من مومياء “حتشبسوت” أن علامات موتها هي علامات لموت طبيعي وأن سبب موتها يرجع إلى إصابتها بالسرطان أو السكري, وقبر “حتشبسوت” موجود في وادي الملوك ويرمز له بالرقم kv20، وربما قامت “حتشبسوت” بتوسيع مقبرة أبيها لكي تستعملها، وقد وجد تابوتها موجوداً بجانب تابوت أبيها.

مؤخراً التقطت لمومياء الملكة “حتشبسوت” صورة تظهر فيها باسمة حالمة وادعة؛ كمن أدى رسالته على أكمل وجه وأخيراً استراح.. والطريف في الصورة أيضاً أن الملكة كانت تتمتع بشعر ناعم ملون جميل؛ يظهر بوضوح في الصورة، وهذا يدل على أن علم التحنيط الذي أبدعه المصريون القدماء سراً عظيماً لو أكتشف؛ قد يغير مظاهر الدفن في العالم بأسره.

ومهما يكن من أمر الملكة “حتشبسوت” فإنها واحدة من قليلات من السيدات في العالم القديم ممن وصلن إلى قمة الإدارة في بلادهن، ولقد بذلت كل الجهد لتقنع الرجل في عهدها بأن يقبلها كإمرأة تحكمه، وسواء أقنعت “حتشبسوت” الرجال في مصر في ذلك الوقت بحكمها أم لم تقنعهم، فإن ما فعلته كان أعظم بكثير مما فعله بعض الملوك الرجال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق